"حين يتقاطع البقاء و الفناء"

((من الأرض : وداعاً يا ابني إلى الأبد وأنت في قناديل الله الآن.))

 

"و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون"

 

كتب ابني محمد العيسى معرفًا عن نفسـه في برنامج الإنستغرام:

 

(يوما ما سيرى الأعمى بصمتي، وسيسمع الأصم بسيرتي.)

 

(( وهذا فعلاً ما حدث، رأى الأعمى بصمته، وسمع الأصم بآخر ما كُتب من سيرته.

لقد تبرع لحماية المصلين، اندفع تجاه إرهابي مطوق بحزام ناسف بدلا من أن يفرّ، فعل هذا لسبب بسيط ومعقد في نفس الوقت حماية الأبرياء، إيقاف هذه الوحوش الشرسة التي لا تستحق أن تكون جماداً حتى.

فعل هذا ابني محمد؛ لأنه يحمل في عقله فكرا مغايراً، معنىً تطبيقيًا وحقيقيًا لمفهوم الإنسانية. الجميع رأى بصمته، رأوه مقداما لا فاراً، رأوا اللحظة الأخيرة والانتقالية من الحياة إلى الموت ، رأوا جسده محمولا على يد المسعفين، ورأوه أيضًا ملفعاً بالبياض، ذاهبا لربه في عرشه الدائم والأزلي ليسكن إلى الأبد في قناديله المليئة بالضوء تاركا خلفه فعلاً لن ينساه مئات المصلين، ملايين المواطنين، بل الكون كله.

(( ما كان محمد طائفياً أو إقصائياً أو نزّاعاً للفرقة. قَـَتَله الطائفيون و الإقصائيون و النزاعون للفرقة. ذهب عارياً إلا من دمه، ليرينا أن الأبطال ليسوا بالضرورة أن يكون كبارًا، الصغار يفعلون الأشياء العظيمة أيضًا

وبعد كل هذا الحزن يبقى هناك صوت للحقيقة بدواخلنا يجب أن نفهمه جميعاً:

كلنا مستهدفون في لحمتنا، في نسيجنا، في تماسكنا، في قناعتنا التامة أننا وطن واحد، من قطيفه شرقاً، لرفحائه شمالاً، لجدته غرباً و لنجرانه جنوباً. نحنُ مستهدفون كي لا نتذكر بـأننا جميعاً مسلمون نشهدُ ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله، وأننا نصلي تجاه ذات القبلة، وأننا نرى الاختلاف ثراء و زيادة لا قتل وتدمير وأحزمة ناسفه. إن ما أريد أن أقوله لكم جميعاً بالكثير من الصدق وبالكثير من الحب

1-   أن لا ننجر لأتون الفرقة و دعاوى الطائفية و الإقصاء.

2-   لا، لأي حشد شعبي و لأي عسكرة خارج إطار الدولة.

3-    بيوتنا الداخلية. أفكارنا، موروثنا، ثقافتنا. كل هذا علينا مراجعته

 

نعم أنا أم الشهيد محمد العيسى، وخالة الشهيدين عبد الجليل ومحمد الأربش. كنت دائما خصيمة عنيدة للطائفية، والتطرف والكراهية واختطاف العقول واستغفال البسطاء، و لو كان ذلك في بيتي. لم أدخر جهدا ولا وقتًا لمحاربة الضغائن والتحريض والإرهاب، سنياً كان أو شيعياً. كان ذلك قبل وبعد أن خسرت الكثير من علاقاتي، منهم من كان من عائلتي ومنهم من كان من أقربائي وما زال ذلك يحدث لي حتى بعد أن فقدت ابني. لطالما اتهموني بأني أحرض عليهم، وأنا ما حرضت إلا ضد الكراهية والتطرف والطائفية والإرهاب و الجهل. وكنت كلما قاسيتُ أذىً وشتمًا وتهديدا تشتد عزيمتي وإصراري على عدوي الأول وهو: التطرف(( .

انتهى حديثها الرائع وكلماتها المبدعة التي كتبتها وحفرتها بماء الذهب           (كوثر الأربش) أم شهيد مسجد العنود بالدمام، في حاضرة العقل العربي والمسلم، وستظل محفورة في ذاكرة تاريخنا البائس الذي سكنته خفافيش الظلام دهورا طويلة، لتسكب بين فينة وأخرى دماء زكية كدماء الشهداء محمد العيسى وعبد الجليل و محمد الأربش وتقدمها قرابين لإرادة الحياة، و سكبوها في بيت من بيوت الله حماية لمصلين لم يكونوا يعلمون أن قادما إليهم من كهوف ظلام الحقد والكراهية يتربص بأرواحهم لا لشيء إلا لأنه وهب عقله ونفسه لوكلاء (الموت) الذين ألبسوه حزاما ناسفا يطيح بأسوار التعايش لولا أن تصدى له نماذج من شباب الحياة ليحولوا دونه ودون أغراضه الشريرة، فالتحمت أجسادهم بجسده لتتقاطع قيم البقاء مع شرور الفناء، فتتصدى عقولهم النيرة لعقله المغسول بأوحال القتل والدمار والتطرف والإرهاب.

أم محمد (كوثرالأربش) تحولت إلى أم و أخت لأبناء وطنها الذي سيظل يرفعها إلى مراتب القدوات، وسيظل حديثها منقوشا في ذاكرته بحروف من نور.

 

يوسف عبد الحميد الجاسم الصقر

1-6-2015