وداعاً يا ابنتي

عروسنا ذات الأربعين ربيعا إنغمر أكثر من نصفها  بين رنين أجهزة التنفس وأمصال الحياة في رواق دائم لم تعرف فيه شعاع الشمس ولا نسمات الهواء.

 

العناية المركزة في مستشفى الصباح كانت دار سكناها عبر اثني عشر عاما متصلة ، وملائكة الرحمة من ممرضاتها وممرضيها وهيئتها الطبية ، كانوا رفاق أيامها ولياليها ، بين الأنين والرجاء، بين قراءة في الأجهزة الطبية تبعث بعضاً من أمل، وبين أخرى مفزعه تجعلهم يتراكضون من حولها  ليدفعون عنها شرور نهايات كادت تداهمها.

 

ثلاثة وعشرين عاما من لغة الصمت مّرت بين أبوين وابنتهما يهمسان بالتحية في أذنها كل صبح ومساء علّها تجيب،  ولكنها تبادلهما حباّ صامتاً خالٍ من  أي تعبير أو إشارة  إلا  أنفاسٍ استمرت تتهادى من خلال جهاز التنفس الآلي ، فكانت تسمع دون أن تقوى على الإجابة ، وتتألّم دون أن  تَقِدر على البَوْح، وهو ماراكم آلامنا عليها مثلما راكم أجرها عند علاّم الغيوب..

 

ابنة السبعة عشر عاما من الورد والزهو والبهاء، ألبسها حادث طريق لعين في إبريل &<633;&<641;&<641;&<635;  رداء المستشفيات الأخضر حتى بلغت الأربعين من عمرها ، في رحلة تقلّبت بين اليأس والانتظار، والاستراحات في مرافئ الأمل  كلما داهمنا القنوط وفررنا إلى قول الخالق (  لا تقنطوا من رحمة الله )، وفي كل مرة تتكرر الاستجابة بين العباد الضعفاء، وبارئهم القادر، فلم نيأس لحظةً من بزوغ فجر جديد علّه يعيد وعيها وجسدها المتعب إلى سيرتهما الأولى !!

 

جيران سكناها في رحلة المعاناة في (العناية المركزة)، مئات من المرضى والمصابين من شيبٍ وشباب، ذكورًا وإناّثًا، اغتسلت ابنتنا  بدعوات أهاليهم لها بالشفاء وهي مسجّاة  بينهم في فراش أبدي لم تعرف بسببه الجلوس ! واغتسلنا نحن بتجلّيات إرادة الخالق أمام أعيننا بين معجزات الشفاء لمن غادر إلى منزله، وأقدار الفناء لمن أفاض إلى دار الخلود، فكانت تبريكات الشفاء وعبارات العزاء هي مادتنا اليوميه  في التواصل مع أهالي سكّان ذلك الرواق الصامت إلا من رنين الأجهزة وإحصاء الأنفاس وضجيج مضخّات الحياة التي لا تهدأ في عالم صغير اسمه (العناية المركزة ) وهو الحد الفاصل بين النهاية أو المضي في الحياة ، وهكذا اتصلت الدائرة القاتمة  دون انقطاع، وزّوادتنا فيها                    (الصبر الجميل والاستعانة بالله) .

 

وبعد أن بدأت خيوط بياض شَعر الأربعين عاماً تسري بين خصلات شعر ابنتنا الكثيف الفاحم السواد المدلّى على أكتافها ليزيدها جمالاً وبهاءً ، جاء الأمر الإلهي  مساء السادس من مارس &<634;&<632;&<633;&<638;قبل صلاة المغرب ليعلن نهاية المعاناة.

 

داعبت نسائم الربيع  وجنتيها الطريتين الخاليتين من (الحياة) في أول مغادرة لسكناها طوال إثني عشر عامًا على نقّالةٍ كريهة انحشرت في صندوق عربة الإسعاف ليزفها الجمع من أهلها بالدمع والحسرات إلى  وجهتها الأخيرة نحو دار الخلود .

 

 

 

 

 

في السابع من مارس &<634;&<632;&<633;&<638;، توشَحت ببياض الكفن ودهن  الكافور  و أطياب (الوداع الأخير) محمولة إلى حياض  رَبِّهَا ، بعد أن  كان الحلم لا يزال يراودنا  بزفافها عروساً تشرق بابتسامتها المتوهجة بيننا، ولكن شاءت إرادة الله التي لا اعتراض عليها ولا راد لها، بأن يكون زفافها فقط نحو السماء .

 

غادرتنا ( كنده ) عروساً بهيّة إلى رحاب ربّها حورية في جنانه، مغفورا لها بإذنه ومشفوعاً لها بعذابات السنين.

 

أمّها الرائعة الصابرة  التي أشرفت على جهازها في الرحلة الأبدية ، هي من أشرفت على كل لحظة في من لحظات حياة عروسها المختالة  قبل الإصابة  في  حقول  دنياها البهيجة وحب إخوتها  وذويها وصديقاتها، و دعوات الداعين لها بالشفاء بعد الإصابة، والداعين لها بالرحمة راحلة إلى دار البقاء .

 

الأم المكلومة ودّعت ابنتها المغادرة للأبد وفي حلقها غصَّة ، فهي لم تشبع منها بعد! وانتحبت متسائلة:

 من سأزور  كل صباحٍ سواكِ  يا (كنده)؟ بعد أن اعتدت الالتقاء بكِ على سرير مرضك في صباحات الأعوام الثلاثة والعشرين الماضية كلّها..

 

أُعذُرينا يا ابنتي إن  قصّرنا بحقك يوماً ، فلم نملك طوال عمر مأساتك إلا نثر الحب والرجاء والأمل من حولك ، ولكن عزائنا اليوم هو زفافك محفوفة بدعوات كل الناس وموعودة برحمات الله في جواره، وبلسم جرحنا في فراقك الأزلي هو سيول وأنهار الاحتفاء والعزاء المخلص بفقدك و المواساة  الصادقة التي غمرنا بها موّدعوك  من الأهل والأصحاب والأحبة  .

 

أُعذريني يا ( كنده ).. سأتوقف عند هذا الحد، حيث خارت قواي في الكتابة ولم أعد أرى السطور ،لأنها المرّة الأولى التي أكتب فيها بسيل الدموع. 

 

وداعا أيتها الغالية ، وداعاً يا ابنتي..

 

 

يوسف عبدالحميد الجاسم

الجمعة 11مارس2016